بعد خمسة أيام على انطلاق الدورة 13 للمهرجان الوطني للفيلم المغربي وبعد أربعة أيام من العروض السينمائية المتواصلة يمكن الخروج بملاحظة مفادها أن مستوى الأفلام المعروضة جد متباين فمن الأفلام الجد ضعيفة إلى الأفلام المتوسطة والأخرى المقبولة تقنيا وفنيا لكن دون إدعاء فني مبالغ فيه، ثم الأفلام الجيدة والتي شاهدنا منها خلال هذه الأيام الأربعة إثنين على الأقل وهي "شي غادي وشي جاي" لحكيم بلعباس و "موت للبيع" أو "بيع الموت" ، كما جاء في جنريك الفيلم، لفوزي بن سعيدي..وهذه قراءة أولية وسريعة للفيلم الأول على أن نعود للفيلم الثاني في تغطية لاحقة :
"شي غادي وشي جاي".. أو نسج العنكبوت
في فيلم "شي غادي وشي جاي" يستمر حكيم بلعباس في نفس المسار الذي ابتدأه في فيلمه الطويل الأول "خيط الروح" بمزجه مابين التخييلي والتوثيقي والحلم، إذ يستطيع وهو يلعب بهذه المستويات الثلاث وينتقل مابينها طيلة لحظات الفيلم أن ينسج سرده الفيلمي بقوة وتماسك تجعلنا نقتنع مرة أخرى أنه صاحب رؤية ومشروع سينمائيين ينسجهما كما العنكبوت تنسج خيوط بيتها، لنتوه في نسيجه ونصبح معتقلي وسجيني متاهته القاسية والجميلة في آن...
وبالرجوع إلى مستويات السرد الفيلمي الثلاث التي ينتهجها بلعباس في فيلمه "شي غادي وشي جاي" فإننا إذا كنا نجده يحاكي الواقع في المستوى التخييلي فإنه في المستوى التوثيقي يحاول تكسير ذلك المستوى الأول في عديد من لحظاته وكأنه بذلك لا يريد للمشاهد التماهي الكامل مع الأحداث لكن ربما وبالمقابل يزيد من خلال ذلك في محاولة تماهي المتلقي مع الشخوص ومعاناتهم..وبما أن كل شيء عند بلعباس قد يعني الشيء وضده فهذا جائز تماما..وهو يستعين لذلك في هذا المستوى بممثلين غير محترفين أو ب"موديلات" كما يدعوهم المخرج الفرنسي روبير بروسون...
ونجد بين المستويين الأول والثاني مستوى ثالثا هو مستوى الحلم، يوظفه بلعباس داخل فيلمه لينهيه به في آخر المطاف مع ترك باب التأويل والإلتباس مفتوحا بالخلط المتعمد بينه وبين التخييلي..فالزوجة ترى أحلاما في واحد منها تخرج ليلا من باب بيتها فتجد زوجها منكمشا أمام الباب والحديقة فتقول له "عدت إذن؟" فيجيبها لا لم أعد" فتقترب منه وتحتضنه..وفي الثاني يبدأ ذلك الخلط والمزج بين مستويي الحلم والواقع التخييلي فنشاهد الزوج وهو يكابد الموج وكأنه يكاد يغرق ثم تستيقظ المرأة من نومها مفزوعة وكأنها إستيقظت من نفس الكابوس الذي ربما ليس حلما، وفي نهاية الفيلم وبنفس اللون الأزرق الذي وظفه بلعباس في مشاهد "الحلم" السابقة تسمع الزوجة دقا على الباب فتفتحه لتجد زوجها وقد "عاد"...
وتظل شخصية "الكراب" التي لعبها بنبراهيم باقتدار خارج كل هذه المستويات وفوقها حتى تتمكن من الربط بينها كلها، فهو الذي نجده في حديث حميمي - لكن مصور بنوع من الإختلاف يوحي بأنه ليس حديثا عاديا- مع الزوجة تارة ومع الأم تارة أخرى وكأنه أناهما الآخر، ثم نتفاجأ بكونه يسقي "الحراكة" في مكان قصي وبعيد وهنا تحتمل هذه الشخصية أكثر من تأويل كونها الأنا الجمعي أو الشاهد الذي يرى ويتابع كل شيء ويعلق عليه..
ويظل لحضور الماء الذي لا يرتبط ب"الكراب" فقط بل نجده منذ البداية ساعة تخرج الأم من المنزل وفي يدها إبريق كبير مليء به فتدع كاميرا بلعباس كل شيء لتركز في لقطة كبيرة على الإبريق الذي تسقي به الأم النبات،دور هام، إذ في غمرة هذه الوفرة للماء يكسر بلعباس أفق انتظارنا مع أول أو ثاني انتقال للمستوى التوثيقي بتصويره لحنفية إنقطع عنها الصبيب ثم لامرأة تشتكي من شح الماء وانقطاعه..ثم ينتقل بعد ذلك لتصوير البحر بجبروته وقدرته .على العموم يحاول بلعباس في تركيزه على الماء في المستويات الثلاث اللعب على تيمتي الموت والحياة في ارتباطهما بالماء أحد عناصر الحياة الأولى...